الرسالة كما هو معروف تاريخيا تأليف أبي عثمان عمرو بن الجاحظ وسبب تأليفها هو طلب واحد من الناس أن يذكر له مفاخر السودان وهو قوله” تولاك الله وحفظك، وأسعدك بطاعته، وجعلك من الفائزين برحمته
ذكرت – أعاذك الله من الغشِّ – أنك قرأت كتابي في محاجة الصرحاء للهجناء، وردِّ الهجناء، وجواب أخوال الهجناء، وأني لم أذكر فيه شيئاً من مفاخر السودان فاعلم حفظك الله أني إنما أخرت ذلك متعمداً وذكرت أنك أحببت أن أكتب لك مفاخر السودان، فقد كتبت لك ما حضرني من مفاخرهم”
وقد بدأ الكتاب بأقوال لا علاقة لها بالموضوع وهى :
“قال الأصمعى: قال الفرز عبد فزارة وكانت في أذنه خُربة: إن الوئام يتترع في جميع الطَّمْش: لا يقرب العنز الضَّأن ما وجدت الماعز، وتنفر الشاة من المخلب ولا تأنس بالخف
وأنشد أبو زيد النحوي: ” لولا الوئام هلك الإنسان ”
فهنا الحديث عن الوئام وهو السلام بين الناس ثم ذكر حكايات عن النساء السود فقال ناقلا التالى:
“وقال شدادٌ الحارثيُّ – وكان خطيباً عالماً -: قلت لأمةٍ سوداء بالبادية: لمن أنت يا سوداء؟ قالت: لسيد الحضر يا أصلع قال: قلت أو لستِ سوداء؟ قالت: أو لست أصلع؟ قلت: ما أغضبك من الحق قالت: الحق أغضبك، لا تشتُمْ حتى تُرهب، ولأن تتركه أمثل وقال شداد: لقد كلَّمتها وأنا أظنُّ أنِّي أفي بأهل نجد، وما نزعت عنِّي إلا وأنا عند نفسي لا أفي بأمَتِي
وقال الأصمعي: قال عيسى بن عمر: قال ذو الرُّمَّة: قاتل الله أمةَ آل فلانٍ السوداء، ما كان أفصحها وأبلغها! سألتها كيف كان المطر عندكم؟ قالت: غٍثْنا ما شئنا ”
وبعد هذا ذكر مشاهير السود كما يزعمون فقال :
“مناقب السودان:
أن لقمان الحكيم منهم، وهو الذي يقول: ثلاثة لا تعرفهم إلا عند ثلاثة: الحليم عند الغضب، والشجاع عند الخوف، والأخ عند حاجتك وقال لابنه: إذا أردت أن تخالط رجلاً فأغضِبْه ذلك، فإنْ، أنصفك وإلا فاحذره ولم يرووا ذلك عنه إلا وله أشياء كثيرة وأكثر من هذا مَدْحُ الله إياه وتسميته الحكيم، وما أوصى به ابنه”
ولقمان (ص) نبى من الأنبياء لم يذكر شىء فى الوحى عن بياضه أو سواده
ثم ذكر :
“ومنهم: سعيد بن جبير، قتله الحجَّاج قبل موته بستة أشهر وهو ابن تسعٍ وأربعين سنة، ومات الحجّاج وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وكان سعيدٌ أورع الخَلْق وأتقاهم، وكان أعظم أصحاب ابن عباس وأصحاب الحديث يطعنون في الذي يجيء من قبل أصحاب ابن عباس حتى يجيء من سعيد بن جبير وأبوه مولى بني أسد، وهو مولى بني أميّة، وقُتِل يوم قُتِل والناس يقولون: كلُّنا محتاجٌ إليه”
والحجاج أساسا شخصية وهمية مثل دولة بنى أمية كلها ودولة بنى العباس ومن ثم فسعيد بن جبير هو الأخر قد لا يكون له وجود غير الوجود فى الكتب ووصف الجاحظ له “وكان سعيدٌ أورع الخَلْق وأتقاهم” كلام وهمى فلا هو عاشره ولا رآه ولا هو يعلم شيئا عنه ولذا قال تعالى ” هو أعلم بمن اتقى”
وهذا الوصف يعنى كونه أفضل من النبى (ص) واخوته الأنبياء(ص) ولو قال من أورع الخلق وأتقاهم لكان من المقبول ولكنه جعله أورع الخلق وأتقاهم غير مقبول ثم قال :
“ومنهم: بلالٌ الحبشيُّ ، الذي يقول فيه عمر بن الخطاب : إن أبا بكرٍ سيدنا وأعتق سيدنا، وهو ثلث الإسلام
ومنهم: مهجع، وهو أول قتيلٍ قُتِل بين الصِّفَّين في سبيل الله
ومنهم: المقداد، وهو أول من عدا به فرسه في سبيل الله”
وهذا الكلام عن الأولية لا ذكر له فى الوحى فمثلا كون بلال ثالث من أسلم يتناقض مع رواية عن كون سعد بن أبى وقاص ثالث من أسلم حيث روى البخارى بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: “ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام”
ثم قال :
“ومنهم وحشيٌّ قاتل مُسيلمة الكذاب وكان يقول: قتلت خير الناس – يعني حمزة بن عبد المطلب – وقتلت شر الناس – يعني مُسيلمة الكذاب –”
وبالقطع هذا الكلام لا يمكن أن يصدر من مسلم حيث يفضل مسلم على النبى(ص) بقوله” قتلت خير الناس – يعني حمزة”
ثم قال “ومنهم: مكحولٌ الفقيه ومنهم: الحَيقُطان الشاعر، الذي كان يَفضُل في رأيه وعقله وهمَّته وهو الذي يقول في الإخوان: لا تعرفُ الأخ حتَّى ترافقه في الحضر، وتزامله في السفر ومنهم: جُليبِيب الذي تحدثت الرواة أن رسول الله (ص) خرج في غزاةٍ فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً ثم خرج فقال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً ثم خرج فقال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا في الثالثة: لا قال: لكني أفقد جُليبيباً، اطلبوه فطلبوه بين سبعةٍ قد قتلهم ثم قُتِل فقال النبي (ص): ” قتل سبعةً ثم قتلوه هذا منِّي وأنا منه ” قال: ثم حمله على ساعديه حتى حفروا له، ما له سريرٌ غير ساعدَيْ رسول الله (ص) قال: ولم يذكروا غُسْلاً”
والكلام عن جليبيب هنا كلام استغفال للناس فالعبارة ” قتل سبعةً ثم قتلوه هذا منِّي وأنا منه” فالرجل قتل السبعة والسبعة بعد أن قتلهم قتلوه ثم كيف يكون جليبيب من النبى(ص) والنبى(ص) من جليبيب فإما أن يكون هذا ابن ذاك أو العكس ولو قال النبى (ص) كلاما لقال هذا من المسلمين أو من شهداء المسلمين
ثم قال “ومنهم: فرجٌ الحجَّام وكان من أهل العدالة، والمقدَّمين في الشَّهادة أعتقه جعفر بن سليمان؛ وذلك أنه خدمه دهراً يصلح شاربه ولحيته ويهيئه، فلم يره أخطأ في قولٍ ولا عمل، فقال: والله لأمتحنَّنه، فإن كان ما أرى منه عن تدبيرٍ وقصدٍ لأعتقنه ولأزوَّجتَّه ولأغنينَّه وإن كان على غير ذلك عرفتُ الصنع فيه فقال له ذات يوم وهو يحجمه: يا غلامُ، أتحتجم؟ قال: نعم قال: ومتى؟ قال: عند الحاجة قال: وتعرفُ ذلك؟ قال: أعرفُ أكثره وربما غلِطت قال: فأيَّ شيء تأكل؟ قال: أمَّا الشتاء فداك براه خائرة حلوة وأما في الصيف فسكباجةٌ حامضة عذبة فبلغ به جعفر بن سليمان ما قال وهو الذي يقول فيه أبو فرعون:
خلُّوا الطَّريق زوجتي أمامي أنا حميمُ فرجِ الحجّام
قال: وبلغ من عدالته ونبله في نفسه وتوقِّيه وورعه، أن مواليه من ولد جعفرٍ وكبار أهل المربد، كانوا لا يطعمون أن يُشْهده إلا على أمرٍ صحيح لا اختلاف فيه”
الخبل فى الحكاية هو كون فرج من المقدمين فى الشهادة وهى عبارة تعنى فى عصرنا انه رجل من شهود الزور يتقدم للشهادة فى القضايا دون ان يرى شيئا فلا يوجد أحد مقدم فى الشهادة لأنه لا يرى كل القضايا ولا يعيش مع كل الناس ومن ثم فالشهادة عندما تقع لأحد فى عمره مرة اثنين ثلاثة وليس فى قضايا بالعشرات
ثم تحدث عن الحيقطان فقال :
“وأما الحَيقُطان فقال قصيدةً تحتجُّ بها اليمانية على قُريشٍ ومضر، ويحتجُّ بها العجم والحبشُ على العرب، وكان جريرٌ رآه يوم عيدٍ في قميص أبيض وهو أسود، فقال:
كأنه لما بدا للناس أير حمارٍ لُفَّ في قرطاس
فلما سمع بذلك الحيقطان وكان باليمامة، دخل إلى منزله فقال هذا الشعر:
لئن كنتُ جعد الرَّأسِ والجلدُ فاحمٌ فإنَّي لَسَبْطُ الكفِّ والعرضُ أزهر
وإنَّ سواد اللَّون ليس بضائِري إذا كنتُ يوم الروع بالسَّيف أخطرُ
فإن كنت تبغي الفخر في غير كنهه فرهُط النَّجاشي منك في الناس أفخر
تأبَّى الجُلَنْدَي وابن كسرى وحارثٌ وهوذة والقبطي والشيخُ قيصرُ
وفاز بها دون الملوك سعادةً فدام له الملك المنيع الموفّرُ
ولقمان منهم وابنه وابنُ أمِّه وأبرهةُ الملك الذي ليس يُنكَرُ
غزاكم أبو يكسوم في أمِّ داركم وأنتم كقبْصِ الرمل أو هو أكثر
وأنتم كطير الماء لما هوى لها ببلقعةٍ، حُجن المخالبِ أكدرُ
فلو كان غير الله رامَ دفاعه علمت وذو التَّجريب بالناس أخبرُ
وما الفجرُ إلا أن تبيتوا إزاءه وأنتم قريبٌ ناركم تتسعَّرُ
ويدلُف منكم قائد ذو حفيظة نُكافحه طوراً وطورا يدبَّرُ
فأما التي قُلتم فتلكم نُبوَّة وليس بكم صُون الحرام المستَّرُ
وقلتم لقاحٌ لا نؤدي إتاوة فإعطاء أريانٍ من الفَرِّ أيسر
ولو كان فيها رغبةٌ لمتوَّجٍ إذاً لأتتها بالمقاول حميرُ
وليس بها مشتىً ولا متصيَّف ولا كجُؤاثا ماؤها يتفجَّر
ولا مرتعٌ للعين أو متقنَّص ولكن تجراً، والتجارة تُحقَر
ألست كُليبيّا وأمك نعجةً لكم في سمان الضّان عارٌ ومفخر”
هذه القصيدة وقبلها بيت جرير هى من ضمن الكفر والفخر بالكفار والذم بالفواحش مع وجود فخر فيها بالمسلمين وقد قام الجاحظ بشرحها شرحا مطولا وأدخلنا فى امور بعيدة عن موضوع الكتاب كقوله:
“أما قوله:
تأبى الجلندى وابن كسرى وحارثٌ وهوذة والقبطى والشيخ قيصرُ
فإنه يقول: كتب النبيُّ (ص) إلى بني الجُلندي فلم يُؤمنوا”
فابنا الجلندى تاريخيا أسلموا على يدا عمرو بن العاص وليس كما يقول الجاحظ أن الوحيد الذى أسلم هو النجاشى فى قوله:
“ولكنَّ النَّجاشيَّ أسلم قبل الفتح، فدام له ملكه ونزع الله من هؤلاء النِّعمة ”
ثم ذكر أبو يكسوم وهو أبراهة فى التاريخ فقال :
“وأما قوله:غزاكم أبو يكسوم في أمِّ داركم وأنتم كقِبْص الرَّمل أو هو أكثر فإنه يعنى صاحب الفيل حين أتى ليهدم الكعبة يقول: كنتم في عدد الرَّمل، فلم فررتمْ منه ولم يلقه أحدٌ منكم حتَّى أفضى إلى مكة، ومكة أمُّ القرى، ودار العرب، هي جزيرة العرب ومكة قريةٌ من قراها، ولكن لما كانت أقدمها قدما، وأعظمها خطراً، جُعلِت لها أمّاً ولذلك قيل لفتح مكة: فتح الفتوح وعلى مثل ذلك سميت فاتحة الكتاب: أمَّ الكتاب والعرب قد تجعل الشىء أمَّ ما لم يَلِدْ من ذلك قولهم: ضربه على أمِّ رأسه، وكذلك أمّ الهاوية والضَّيف يسمى ربّة منزله أمَّ مثواي
وقال أعرابيٌّ وقد أصابته براغيثُ عند امرأةٍ كان نزل بها:
يا أمَّ مثواى عدِمت وجهك أنقذنى ربُّ العُلا من مصرك
ولذع بُرغوثٍ أراه مُهلكى أبيت ليلي دائب التحكّك
تحكّك الأجراب عند المبرك”
ونلاحظ فى الفقرة أن الرجل ذكر أصل ومعنى كلمة أم وهو كلام ليس له علاقة بموضوع الكتاب ونجد الحيقطان يفخر بجواثا على مكة ويحقر أهل مكة بقوله:
“وليس بها مَشْتىً ولا متصيَّف ولا كجُؤاثا ماؤها يتفجَّرُ
قال: ليس في الغلبة على مكة رغبة، ولولا ذلك لغزاها أهل اليمن وغيرهم وليس بها مشتىً ولا متصيَّف؛ لأنهم يتبرَّدون بالطائف ويتدفَّوْن بجدَّة وجؤاثا: عينٌ بالبحرين وليس بمكة شيءٌ يدانى ذلك وقال:
ولا مرتعٌ للعين أو متقنَّص ولكنَّ تجراً والتجارة تُحقرُ
يقول: ليس بها متنزَّهات، وصيدها حرام، وإنما بها تُجَّار والتُجَّار يُحقرون يقول: هم عند الناس في حدِّ الضعف ..”
ثم قال “وأما قوله:
ألست كليبيّاً وأمُّك نعجةٌ لكم في سمان الضَّأن عارٌ ومفخرُ
فإن بنى كُليبٍ يُرمون بإتيان الضَّأن، وكذلك بنو الأعرج، وسُليم وأشجع تُرمى بإتيان المَعْز”
فهنا يعير القوم بكونهم يزنون بالحيوانات وذكر أشعارا كثيرة فى الزنى بالحيوان حذفناها لكونها لا علاقة لها بموضوع الكتاب
ثم قال :
“ومن مفاخر السُّودان والزِّنج والحبش مع ما ذكرنا من قصيدة الحيقطان، أنَّ جرير بن الخطفى لما هجا بنى تغلب وقال:
لا تطلُبَنَّ خؤولةً في تغلبٍ فالزِّنج أكرم منهم أخوالا
غضب سنيح بن رباح شار، فهجا جريراً، وفخر عليه بالزِّنج فقال:
ما بال كلبٍ من كليبٍ سبَّنا أن لم يوازن حاجباً وعقالا
إن امأً جعل المراغة وابنها مثل الفرزدق جائر قد فالا
والزِّنج لو لاقيتهم في صفِّهم لاقيت ثمَّ جحاجحاً أبطالا
فسل لبن عمرو حين رام رماحهم أرأى رماح الزِّنج ثمَّ طوالا
فجعوا زياداً بابنه وتنازلوا لكما دُعُوا لنزال ثمَّ نزالا
ومربِّطين خيولهم بفنائهم وربطت حولك شيِّها وسخالا
كان ابن ندبة فيكم من نجلنا وخفافٌ المحمَّل الأثقالا
وابنا زُبيبة: عنترٌ وهراسةٌ ما إن نرى فيكم لهم أمثالا
سل ابن جيفر حين رام بلادنا فرأى بغزوتهم عليه خبالا
وسليكٌ اللَّيث الهزبر إذا عدا والقرمُ عبّاسٌ علوك فعالا
هذا ابن خازمٍ ابن عجلى منهم غلب القبائل نجدةً ونوالا
أبناء كلِّ نجيبةٍ لنجيبةٍ أسدٌ تربِّب عندها الإشبالا
فلنحن أنجب من كليب خؤولةً ولأنت ألأم منهم أخوالا
وبنو الحباب مطاعن ومطاعم عند الشِّتاء إذا تهبُّ شمالا”
هذه القصيدة هى الأخرى من قصائد الكفر لفخرها بكثير من الكفار فى عهد الجاهلية وقد قام الجاحظ ببيان الشخصيات المذكورة فيها
أما ابن عمرٍو الذي ذكر، فهو حفص بن زياد بن عمرٍو العتكى، كان خليفة أبيه على شرطة الحجاج، فغلب رباح شار الزِّنجى على الفرات، فتوجَّه إليه حفص بن زيادٍ فقتله رباحٌ وقتل أصحابه واستباح عسكره
وأما ابن جيفر فهو النعمان بن جيفر بن عباد بن جيفر بن الجلندى كان غزا بلاد الزِّنج فقتلوه وغنموا عسكره
ثم ذكر أبناء الزِّنجيات حين نزعوا إلى الزِّنج في البسالة والأنفة فذكر خفاف بن ندبة، وعباس بن مرداس، وابنى شدادٍ: عنترة الفوارس وأخاه هراسة، وسليك بن السُّلكة فهؤلاء أسد الرجال، وأشدُّهم قلوباً وأشجعهم بأساً، وبهم يضرب المثل
ومنهم: عبد الله بن خازمٍ السُّلمى، وبنو الحباب: عمير بن الحباب وإخواته
وكان أيضاً منهم: الجحَّاف بن حكيم
وهم أيضاً يفخرون برباحٍ أخى بلال وحاله وصلاحه
ويفخرون بعامر بن فهيرة، بدرى استشهد يوم بئر معونة، فرآه الناس قد رفعه الله بين السماء والأرض، فليس له في الأرض قبر ومنهم: آل ياسر
قالوا: ومنَّا الغداف صاحب عبيد الله بن الحرّ لم يكن في الأرض أشد منه؛ كان يقطع على القافلة وحده بما فيها من الحماة والخفراء
وكعبويه صاحب المغيرة بن الفزْر، كان مثلاً في الشجاعة
ويقولون: ومنَّا مرْبح الأشرم، غلام أبى بحرٍ القائد، الذي كان قدم من الشام أيام قتيبة بن مسلم، وكان لا يرام لقاؤه، وأمره مشهور
قالوا: ومنا المغلول وبنوه، وهم من الخول، ليس في الأرض أعرف ولا أثقف ولا أعلم بالبادية منهم
قالوا: ومنَّا أفلح، الذي قطع على القوافل بخراسان وحده عشرين سنة قالوا: وإنما قتله مالك بن الرَّيب، لأنه وطئه في جوف الليل وهو سكران خائر والشاهد على قولنا قول ابنه:
أمالك لولا السُّكر أيقنت أنَّه أخو الورد أو يُربى على الأسد الورد
قالوا: ونحن قد ملكنا بلاد العرب من لدن الحبشة إلى مكة،وجرت أحكامنا في ذلك أجمع وهزمْنا ذا نواسٍ، وقتلنا أقيال حمير وأنتم لم تملكوا بلادنا وقد قال شاعركم:
وخرب غُمداناً وهدَّم سقفه رياطٌ بأجنادٍ وصولته هصر
أطافت به الأحبوش ليلاً فقوضوا بناً شدَّه الأقيال في سالف الدَّهر
بجمعٍ من اليكسوم سودٍ كأنهم أسودُ الشرى اجتابت جلوداً من النُّمْر
قالوا: ومنا كباجلا، لم يصعد نهر سليمان ولا قاتل في المخارجات أحدٌ قطُّ يشبهه الوا: ومنا الأربعون الذين خرجوا بالفرات أيام سوَّار بن عبد الله القاضي، فأجلوا أهل الفرات عن منازلهم، وقتلوا من أهل الأبُلَّة مقتلةً عظيمة
قالوا: ومنَّا الذي ضرب عنق عيسى بن جعفر بعُمان، بمنجلٍ بحرانيّ، بعد أن لم يجسر عليه أحد”
وما سبق من ذكر أسماء الأشخاص الذين ذكروا فى القصيدة وبعض حكاياتهم كلام لا فائدة منها والتعليق فقط على حكاية عامر بن فهيرة، البدرى الذى استشهد يوم بئر معونة، فرآه الناس قد رفعه الله بين السماء والأرض، فليس له في الأرض قبر وهى حكاية لا أصل لها تتعارض مع منع الله الآيات وهى المعجزات فى عهد النبى(ص) بقوله ” وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون” كما أن كل بنى آدم له قبر أى مستقر سواء عرف القبر او لم يعرف لقوله تعالى ” فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ”
كما ان بعض الحكايات حكايات خيالية كالرجل الذى يهجم على القافلة برجالها وحراسها وحدهم فيقتل الكل وبنهب البضاعة وحده
ثم ذكر الرجل صفات السودان وهم الزنج فقال :
“قالوا: والناس مجمعون على أنه ليس في الأرض أمّةٌ السخاء فيها أعمُّ، وعليها أغلب من الزِّنج وهاتان الخلَّتان لم توجدا قطُّ إلا في كريم وهم أطبع الخلق على الرقص الموقَّع الموزون، والضرب بالطبل على الإيقاع الموزون، من غير تأديبٍ ولا تعليم وليس في الأرض أحسن حلوقاً منهم وليس في الأرض لغةٌ أخفُّ على اللسان من لغتهم، ولا في الأرض قومٌ أذْربُ ألسنةً، ولا أقلُّ تمطيطاً منهم وليس في الأرض قومٌ إلا وأنت تصيب فيهم الأرتَّ والفأفاء والعيى، ومن في لسانه حبسة، غيرهم والرجل منهم يخطب عند الملك بالزِّنج من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، فلا يستعين بالتفاتةٍ ولا بسكتةٍ حتى يفرغ من كلامه وليس في الأرض أمةٌ في شدة الأبدان وقوة الأسر أعمُّ منهم فيهما وإن الرجل ليرفع الحجر الثقيل الذي تعجز عنه الجماعة من الأعراب وغيرهم وهم شجعاءٌ أشداء الأبدان أسخياء وهذه هي خصال الشرف والزنجي مع حسن الخلق وقلة الأذى، لا تراه أبداً إلا طيب النفس، ضحوك السّنّ، حسن الظّنّ وهذا هو الشرف
وقد قال ناسٌ: إنهم صاروا أسخياء لضعف عقولهم، ولقصر رويَّاتهم، ولجهلهم بالعواقب فقلنا لهم: بئس ما أثنيتم على السخاء والأثرة، وينبغى في هذا القياس أن يكون أوفر الناس عقلاً وأكثر الناس علماً أبخل الناس بخلاً وأقلهم خيرا وقد رأينا الصَّقالبة أبخل من الرُّوم، والروم أبعد رويةً وأشدُّ عقولا وعلى قياس قولكم أن قد كان ينبغى أن تكون الصَّقالبة أسخى أنفساً وأسمح أكُفّاً منهم وقد رأينا النساء أضعف من الرجال عُقولاً، والصِّبيان أضعف عقولا منهم، وهم أبخل من النساء، والنِّساء أضعف عقولاً من الرجال ولو كان العقل كلَّما أشدَّ كان صاحبه أبخل، كان ينبغي أن يكون الصبيُّ أكرم الناس خصالاً ولا نعلم في الأرض شرّاً من صبيّ: هو أكذب الناس وأنم الناس، وأشره الناس وأبخل الناس، وأقل الناس خيراً وأقسى الناس قسوة وإنما يخرج الصبيُّ من هذه الخلال أولاً فأولاً، على قدر ما يزداد من العقل فيزداد من الأفعال الجميلة فكيف صار قلّةُ العقل هو سبب سخاء الزِّنج، وقد أقررتم لهم بالسِّخاء ثم ادَّعيتم ما لا يُعرف وقد وقفناكم على إدحاض حجتكم في ذلك بالقياس الصحيح وهذا القول يوجب أن يكون الجبان أعقل من الشُّجاع، والغادر أعقل من الوفى وينبغى أن يكون الجزوع أعقل من الصَّبور فهذا ما لا حجة فيه لكم، بل ذلك هبةٌ في الناس منالله والعقل هبةٌ، وحسن الخلق هبة، والسَّخاء والشجاعة كذلك وقد قالت الزِّنج للعرب: من جهلكم أنَّكم رأيتمونا لكم أكفاءً في الجاهلية في نسائكم، فلمَّا جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسداً، وما بنا الرغبة عنكم مع أن البادية منا ملأى ممن قد تزوَّج ورأس وساد، ومنع الذِّمار، وكنفكم من العدوّ قال: وقد ضربتم بنا الأمثال وعظَّمتم أمر ملوكنا، وقدَّمتموهم في كثيرٍ من المواضع على ملوككم ولو لم تروا الفضل لنا في ذلك عليكم لما فعلتم”
والرجل ومن رد عليهم يعتبرون جهلة بالإسلام فالناس يختلفون داخل اللون الواحد وداخل اللغة الواحدة وداخل الدين الواحد فى الأفعال والصفات فليست هناك أفعال نفسية سائدة فى لون أو صفات نفسية سائدة فى لون أو متكلمى لغة ما ولذا قال تعالى ” إن سعيكم لشتى” وقال ” ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم”
ثم ذكر اشعارا كلها فى الفخر المحرم فقال :
“وقال النَّمْر بن تولب:
أتى ملكه ما أتى تُبّعاً وأبرهة الملك الأعظما
فرفعه على ملوك قومه وقال لبيد بن ربيعة:
لو كان حيٌّ في الحياة مخلِّداً في الدهر أدركه أبو يكسوم
وهذا شيءٌ من وصف الفضل لم يوصف أحدٌ بمثله
قالوا: ومما قدَّمتم به ملوكنا على ملوككم قوله:
غلب الليالى خلف آل مُحرِّق وكما فعلن بتُبّع وبهرْقل
وغلبن أبرهة الذي ألفيته قد كان خُلِّد فوق غُرفة موْكل
….وأما قوله:
حمارة جمعت من كل محزوة جمع الشُّبيكة نون الزاحر اللَّجب
فإنه ذهب إلى ما تقوله الرواة أن حمير كانت حَمَّارة
وأما الشُّبيكة فأراد الشبكة”
ثم ذكر النجاشى فقال :
“وقال السودان: فهذا الفضل فينا، ولم يصلِّ النبي (ص) قط إلا على جنازةٍ أو قبر، إلا النجاشىّ فإنه صلّى عليه وهو بالمدينة وقبر النَّجاشيّ بالحبشة قالوا: والنجاشي هو كان زوَّج أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان من النبي (ص)، ودعا خالد بن سعيدٍ فجعله وليَّها، وأصدق عن النبي (ص) أربعمائة دينار”
وهو كلام ليس مجالا للفخر فقد صلى النبى(ص) على المنافقين حتى نهاه الله فقال ” فلا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره”
ثم ذكر ما قالته السودان فى الفخر على الغير وهو كلام لم يذكره السودان وإنما ألفه الجاحظ أو من ألف الكتاب فقال:
طقالوا: وثلاثة أشياء جاءتكم منْ قبلنا منها الغالية، وهي أطيب الطيب وأفخره وأكرمه ومنها النَّعْش وهو أستر للنساء وأصون للحرم ومنها المصحف، وهو أوقى لما فيه وأحصن له، وأبهى وأهيأ قالوا: ونحن أهول في الصدور وأملأ للعيون، كما أن المسوِّدة أهول في العيون وأملأ للصدور من المبيِّضة، وكما أن الليل أهول من النهار
قالوا: والسَّواد أبداً أهول وإن العرب لتصف الإبل فتقول: الصُّهب سرع، والحُمْر غزْر، والسُّود بهْي فهذا في الإبل
قالوا: ودهم الخيل أبهى وأقوى، والبقر السود أحسن وأبهى، وجلودها أثمن وأنفع وأبقى والحمر السُّود أثمن وأحسن وأقوى وسود الشَّاء أدسم ألباناً وأكثر زبداَ، والدبس أغزر من الحمر
وكل جبلٍ وكل حجرٍ إذا كان أسود كان أصلب صلابةً وأشد يبوسةً والأسد الأسود لا يقوم له شيء
وليس من التمر أحلى حلاوةً من الأسود، ولا أعم منفعةً ولا أبقى على الدهر والنخيل أقوى ما تكون إذا كانت سود الجذوع وجاء: ” عليكم بالسواد الأعظم ” وقال الأنصاري:
أدين وما ديني عليَّ بمغرمٍ ولكن على الشُّمِّ الطوال القراوح
على كل خوارٍ كأن جذوعها طلين بقارٍ أو بدمِّ ذبائح
قالوا: وأحسن الخضرة ما ضارع السَّواد قال الله جلّ وعلا: ” ومن دونهما جنتان “، ثم قال لما وصفهما وشوَّق إليهما: ” مدهمتان ” قال ابن عباس: خضراوان من الرّيّ سوداوان
وليس في الأرض عودٌ أحسن خشباً ولا أغلى ثمناً، ولا أثقل وزناً ولا أسلم من القوادح، ولا أجدر أن ينشب فيه الخطُّ من الآبنوس ولقد بلغ من اكتنازه والتئامه وملوسته وشدة تداخله، أنه يرسب في الماءدون جميع العيدان والخشب ولقد غلب بذلك بعض الحجارة؛ إذ صار يرسب وذلك الحجر لا يرسب والإنسان أحسن ما يكون في العين ما دام أسود الشعر وكذلك شعورهم في الجنة وأكرم ما في الإنسان حدقتاه؛ وهما سوداوان وأكرم الأكحال الإثمد، وهو أسود ولذلك جاء أن الله يُدخل جميع المؤمنين الجنة جُرداً مُرداً مكحَّلين وأنفع ما في الإنسان له كبده التي بها تصلح معدته، وينهضم طعامه، وبصلاح ذلك قام بدنه؛ والكبد سوداء وأنفس ما في الإنسان وأعزُّه سويداء قلبه، وهي علقةٌ سوداء تكون في جوف فؤاده، تقوم في القلب مقام الدماغ من الرأس ومن أطيب ما في المرأة وأشهاه شفتاها للتقبيل، وأحسن ما يكونان إذا ضارعتا السَّواد”
وهو كلام لا مجال فيه للفخر فالخالق خلق البياض والسواد مثلا فى العين فالفضل للخالق وليس للسواد أو البياض وكذلك الكلام فى الجبال وغيرها وقد أكمله بالكلام الفارغ التالى
..رضا البطاوي